فصل: بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَطَاءٌ: هِيَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] وَقَالَ غَيْرَهُمَا: هِيَ نَاسِخَةٌ لِفِعْلِهِمِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ إِذَا نَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَشَّىَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ لَيْلَتَهُ وَمِنَ الْغَدِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] نَزَلَتْ فِي أَبِي قَيْسٍ وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو أَتَى أَهْلَهُ وَهُوَ صَائِمٌ يَعْنِي بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لَا تَنَمْ حَتَّى أَخْرُجَ فَأَلْتَمِسَ لَكَ شَيْئًا فَلَمَّا رَجَعَتْ وَجَدَتْهُ نَائِمًا فَقَالَتْ: لَكِ الْخَيْبَةُ، فَبَاتَ وَأَصْبَحَ صَائِمًا إِلَى ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] الْآيَةَ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: وَكَانَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ إِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ الْمَسَاءِ حُرِّمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ فَسَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَأَتَى مَنْزِلَهُ فَأَرَادَ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ فَقَالَ: مَا نِمْتُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَنَزَلَتْ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الْآيَةَ، فَاتَّفَقَتِ الْأَقْوَالُ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ إِمَّا بِفِعْلِهِمْ وَإِمَّا بِالْآيَةِ فَذَلِكَ غَيْرُ مُتَنَاقِضٍ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] قَالَ الضَّحَّاكُ كَانُوا يُجَامِعُونَ وَهُمْ مُعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، فَنَزَلَتْ، يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ تُجَامِعُ يَعْنِي فِي الِاعْتِكَافِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَدَلَّ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي الِاعْتِكَافِ حَتَّى نُسِخَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَعْلَمُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ التَّاسِعَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِيهَا.

.بَابُ ذِكْرِ مَا فِي الْآيَةِ التَّاسِعَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]:
قَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ. وَقَالَ عَطَاءٌ قُولُوا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ حُسْنًا. وَقَالَ سُفْيَانُ: {قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ كَمَا قَالَ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] فَجَمِيعُ الْمُنْكَرِ النَّهْيُ عَنْهُ فَرْضٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْفَرَائِضِ فَرْضٌ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْطُرُنَّ عَلَيْهِ أَطْرًا أَوْ لَيَعُمَّنَّكُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعَذَابٍ».
فَصَحَّ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَأَنَّ مَعْنَى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] ادْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] وَالْبَيِّنُ فِي الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104].
قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّقْرِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] قَالَ: كَانَتْ لُغَةَ الْأَنْصَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَنَسَخَ هَذَا مَا كَانَ مُبَاحًا قَوْلُهُ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِيهِمْ سَبًّا فَنَسَخَهَا اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِنْ كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا تَجِدَ الْيَهُودُ بِذَلِكَ سَبَبًا إِلَى سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مُجَاهِدٌ: رَاعِنَا خِلَافًا، وَهَذَا مَا لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ.
وَمَعْنَى رَاعِنَا عِنْدَ الْعَرَبِ فَرِّغْ لَنَا سَمْعَكَ وَتَفَهَّمْ عَنَّا وَمِنْهُ أَرْعِنِي سَمِعَكَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَلِرَاعِنَا مَوْضِعٌ آخَرُ تَكُونُ مِنَ الرَّعْيَةِ وَهِيَ الرِّقْبَةُ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ {رَاعِنًا} بِالتَّنْوِينِ فَشَاذَّةٌ وَمَحْظُورٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْرَءُوا بِالشَّوَاذِ أَوْ أَنْ يَخْرُجُوا عَمَّا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مِمَّا أَدَّتْهُ الْجَمَاعَةُ وَالْبَيِّنُ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ أَنَّهُ قَدْ نُسِخَ مِنْهَا.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْبَيِّنَ أَنَّ مِنْهَا مَنْسُوخًا وَهُوَ {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ يُؤْذَوْنَ وَيُضْرَبُونَ فَيَتَفَلَّتُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَحُظِرَ عَلَيْهِمْ وَأُمِرُوا بِالْعَفْو وَالصَّفْحِ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِأَمْرِهِ فَأَتَى اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَنَسَخَ ذَلِكَ وَالْبَيِّنُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] قَالَ: لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَلَا الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَلَا مَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السِّلْمَ وَكَفَّ يَدَهُ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَدَى.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ مِنَ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ.
فأما السُّنَّةُ:
فَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَكَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» وَهَكَذَا، يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَتَبَ: لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالرُّهْبَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَعْتَدُوا {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ فَاعَلَ يَكُونُ مِنَ اثْنَيْنِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَنَّكَ تُقَاتِلُهُ وَيُقَاتِلُكَ فَهَذَا لَا يَكُونُ فِي النِّسَاءِ وَلَا فِي الصِّبْيَانِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: لَا يُؤْخَذُ مِنَ الرُّهْبَانِ جِزْيَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إِلَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَلَيْسَ الرُّهْبَانُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ فَصَارَ الْمَعْنَى: وَقَاتِلُوا فِي طَرِيقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا فَتَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالرُّهْبَانَ وَمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ فَصَحَّ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191].
هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَزَعَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَاحْتَجُّوا بِهَا وَبِأَشْيَاءَ مِنَ السُّنَنِ وَزَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَاحْتَجُّوا بِآيَاتٍ غَيْرِهَا وَبِأَحَادِيثَ مِنَ السُّنَنِ.
فَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ مُجَاهِدٌ رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فِي الْحَرَمِ فَاقْتُلُوهُمْ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدًا فِي الْحَرَمِ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَهُ فَإِنْ عَدَا عَلَيْكَ فَقَاتَلَكَ فَقَاتِلْهُ. وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالِاحْتِجَاجُ لَهُمَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَمِنَ الْحَدِيثِ بِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الْقِتَالُ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُحِلَّ لِي سَاعَةً وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ».
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَمِنْهُمْ قَتَادَةُ كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] فَكَانَ هَذَا كَذَا حَتَّى نُسِخَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] أَيْ شِرْكٌ {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَيْهَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَيْهَا دَعَا {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] مَنْ أَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَنْ يُقَاتَلَ حَتَّى يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّظَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُقَاتَلُونَ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَبَرَاءَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِسِنِينَ وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَأَمَّا السُّنَّةُ:
فَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ».
وُقِرئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ سَلْمٍ الْكُوفِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَّا أَرْبَعَةً مِنَ النَّاسِ: عَبْدَ الْعُزَّى بْنَ خَطَلٍ، وَمِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ الْكِنَانِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَأُمُ سَارَةَ. فأما ابْنُ خَطَلٍ فَقُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَرَأَ أَكْثَرُ الْكُوفِيِّينَ ؟وَلَا تَقْتُلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}. وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ بَيِّنَةُ الْبُعْدِ وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَقْتُلُوا الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: قَتَلْنَاهُمْ أَيْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا أَيْضًا الْمُطَالَبَةُ فِيهِ قَائِمَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَعْلَمُ بِمَخْرَجِ قِرَاءَتِهِمْ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جَرِيجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٍ} [البقرة: 194] قَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَكَانَ مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مُعْتَمِرًا مَكَّةَ فَعُمْرَةٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِعُمْرَةٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَخَرَتْ قُرَيْشٌ بِرَدِّهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَاعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: التَّقْدِيرُ عَمْرَةُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِعُمْرَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ هَاهُنَا ذُو الْقِعْدَةِ بِلَا اخْتِلَافٍ وَسُمِّيَ ذَا الْقِعْدَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ فَمَنَعُوهُ مِنْ مَكَّةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَجَعُهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى فَأَقَصَّهُ مِنْهُمْ {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] مَنْسُوخَةٌ كَانَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَطْلَقَ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا اعْتَدَى عَلَيْهِمْ أَحَدٌ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ فَنَسَخَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ وَصَيَّرَهُ إِلَى السُّلْطَانِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ وَلَا أَنْ يَقْطَعَ يَدَ سَارِقٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مُجَاهِدٌ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فِيهِ أَيْ فِي الْحَرَمِ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.
وَالَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ ذِكْرُ الْحَرَمِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الْخَوَارِجَ لَوْ غَلَبُوا عَلَى الْحَرَمِ لَقُوتِلُوا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً وَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ» فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا غَيْرَ مُحْرِمٍ يَوْمَ الْفَتْحِ وَلَا يَحِلُّ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ.
فأما {وَالْحُرُمَاتُ} [البقرة: 194] فَإِنَّمَا جُمِعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ وَحُرْمَةُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَحُرْمَةُ الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَأَمَّا {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَسُمِّيَ الثَّانِي اعْتِدَاءً وَإِنَّمَا الِاعْتِدَاءُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَجَازٌ عَلَى ازْدِوَاجِ الْكَلَامِ سُمَيَّ الثَّانِي بِاسْمِ الْأَوَّلِ مِثْلَ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا} وَالْجَوَابُ الْآخَرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ يَكُونُ مِنَ الشَّدِّ وَالْوُثوُبِ أَيْ: مَنْ شَدِّ عَلَيْكُمْ وَوَثَبَ بِالظُّلْمِ فَشُدُّوا عَلَيْهِ وَثِبُوا بِالْحَقِّ وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ بِأَجْوِبَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].
فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ نَاسِخَةٌ لِحَظْرِ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ وَلِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الصفحِ وَالْعَفْوِ بِمَكَّةَ وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَكَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] وَالنَّاسِخَةُ {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ وَاجِبَةٌ وَالْجِهَادُ فَرَضٌ وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ فَرْضٌ إِلَّا أَنَّهَا عَلَى غَيْرِنَا يَعْنِي أَنَّ الَّذِي خُوطِبَ بِهَا الصَّحَابَةُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ.
فأما الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ فَبَيِّنٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] نَسْخٌ لِفَرْضِ الْقِتَالِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ عَلَى النَّدْبِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا وَقَعَ بِشَيْءٍ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى غَيْرِ الْوَاجِبِ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ: إِنَّهَا فَرْضٌ وَلَكِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الصَّحَابَةِ فَقَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ وَقَدْ رَدَّهُ الْعُلَمَاءُ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِلْزَامِهِ: مَنْ قَالَ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] إِنَّ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَلَا تُصَلَّى صَلَاةُ الْخَوْفِ بَعْدَهُ فَعَارَضَهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فَقَوْلُ عَطَاءٍ أَسْهَلُ رَدًّا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: هِيَ عَلَى النَّدْبِ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ: هِيَ عَلَى النَّدْبِ قَالَ: هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى النَّدْبِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
فأما قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ بِالْآيَةِ فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ حُذَيْفَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَدُورُ عَلَيْهِمُ الْفُتْيَا إِلَّا أَنَّهُ فَرْضٌ يَحْمِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ فَإِنِ احْتُيِجَ إِلَى الْجَمَاعَةِ نَفَرُوا فَرْضًا وَاجِبًا؛ لِأَنَّ نَظِيرَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] قَالَ حُذَيْفَةُ: الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الْإِسْلَامُ سَهْمٌ وَالصَّلَاةُ سَهْمٌ وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ سَهْمٌ وَالْجِهَادُ سَهْمٌ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ وَنَظِيرُ الْجِهَادِ فِي أَنَّهُ فَرْضٌ يَقُومُ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَعْضٍ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَاتُوا وَمُوَارَاتُهُمْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَرَدُّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْجِهَادُ نَافِلَةٌ، فَيَحْتَجُّ بِأَشْيَاءَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَنْبَطْتُ هَذَا وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَلَوْ كَانَ رَفْعُهُ صَحِيحًا لَمَا كَانَ فِيهِ أَيْضًا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ ذِكْرُ الْجِهَادِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَحْمِلُهُ عَنْ بَعْضٍ فَقَدْ صَحَّ فَرْضُ الْجِهَادِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ فِي الْغَزْوِ وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ كَرِهْنَا أَنْ نُطَوِّلَ الْكِتَابَ بِهَا لِأَنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ كِفَايَةً، وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] الْآيَةَ.
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَأَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُبَاحٌ غَيْرَ عَطَاءٍ فَإِنَّهُ قَالَ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَلَا يَجُوزُ الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَيَحْتَجُّ لَهُ بِمَا حَدَّثَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَاتِلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى أَوْ يَغْزُوَ فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ نَسْخِ الْآيَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَمِنْ ذَلِكَ:
مَا حَدَّثَنَاهُ عُلَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] أَيْ عَظِيمٌ، فَكَانَ الْقِتَالُ فِيهِ مَحْظُورًا حَتَّى نَسَخَتْهُ آيَةُ السَّيْفِ فِي بَرَاءَةَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَأُبِيحُوا الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَفِي غَيْرِهَا.
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَهُ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَرَاءَةَ {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ عَهْدٌ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، انْسِلَاخُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَإِلَى انْسِلَاخِ الْمُحَرَّمِ فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْسَلَخَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَذِهِ الْأَشْهُرُ الَّتِي ذَكَرَهَا قَتَادَةُ وَقَالَ: هِيَ الْحُرُمُ هِيَ أَشْهُرُ السِّيَاحَةِ فَسَمَّاهَا حُرُمًا؛ لِأَنَّهُ حَظَرَ الْقِتَالَ فِيهَا.
فَأَمَّا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَالْعُلَمَاءُ يَخْتَلِفُونَ فِي اللَّفْظِ بِهَا فَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ يَقُولُ: أَوَّلُهَا ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْدَأَ بِرَجَبٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ، وَيُنْكِرُونَ مَا قَالَهُ الْمَدَنِيُّونَ وَقَالُوا: قَوْلُنَا أَوْلَى لِتَكُونَ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمَدَنِيِّينَ: أَوَّلُهَا رَجَبٌ احْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَهَا رَجَبٌ عَلَى هَذَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالْأَمْرُ فِي هَذَا كُلِّهِ سَهْلٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ عَلِمْتُهُ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَالْأَوْلَى أَنْ يُؤْتَى بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَلَى مَا لَفِظَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُدِّيَ عَنْهُ بِالْأَسَانِيدِ الصِّحَاحِ وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ الْأَوَّلُ رَوَى أَبُو بَكْرَةَ، وَغَيْرُهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرٍ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ بِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَزَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] مَنْسُوخٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ وَقَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّقْلَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نُقِلَ إِلَيْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ أَوْ فِي رَجَبٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ وَثَقِيفًا بِالطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ وَذِي الْقِعْدَةِ وَذُو الْقِعْدَةِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحَرَمِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا مَا فِي الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَجْمُوعًا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْحَجِّ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَأَتَمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] الْآيَةَ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ فَفَسَخُوهُ وَجَعَلُوهُ عُمْرَةً وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَسْخِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ بَعْدَ أَنْ أَهَلُّوا بِهِ إِلَى الْعُمْرَةِ فَقَالُوا فِيهِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ: كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ فِي {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]: إِتْمَامُهُمَا أَنْ لَا يُفْسَخَا وَقَدْ قِيلَ فِي إِتْمَامِهِمَا غَيْرُ هَذَا.
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ: أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيَّرِةِ أَهْلِكَ.
َقَالَ سُفْيَانُ: إِتْمَامُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ تَخْرُجَ قَاصِدًا لَهُمَا لَا لِتِجَارَةٍ.
وَقِيلَ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ حَلَالًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ يَفْعَلَ فِيهِمَا كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ جَامِعٌ.
وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ مَنْسُوخٌ بِمَا فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشُدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ وَلَمْ يَحِلُّوا إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَهَذَا قَوْلٌ فِي فَسْخِ الْحَجِّ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إِنَّمَا كَانَ لِعِلَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ عَظِيمٌ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَسْخِ الْحَجِّ وَتَحْوِيلِهِ إِلَى الْعُمْرَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَجَنَّبُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَفِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ.
وَالْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: جِئْتُكَ رَجَبًا وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا جَئتَ فِي بَعْضِهِ فَذُو الْحَجَّةِ شَهْرُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فِيهِ ولِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ وَهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ، فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ فُجُورٍ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ وَعَفَا الْوَبَرْ وَانْسَلَخَ صَفَرْ أَوْ قَالَ: دَخَلَ صَفَرْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلُوهَا عَمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ نُحِلُّ؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ» فَهَذَانِ قَوْلَانِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى الْفَسْخَ جَائِزًا وَيَقُولُ: مَنْ حَجَّ فَطَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْهُ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ لَهُ عُرْوَةُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَضْلَلْتَ النَّاسَ قَالَ لَهُ: بِمَ ذَاكَ يَا عُرَيَّةُ؟ قَالَ: تُفْتِي النَّاسَ بِأَنَّهُمْ إِذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ حَلُّوا وَقَدْ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَلَمْ يَحِلَّا إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] أَأَقُولُ لَكَ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ثُمَّ تَقُولُ لِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَسْخِ؟ قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا انْفَرَدَ بِأَشْيَاءَ غَيْرِهِ.
فأما قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْبُدْنِ وَلَيْسَ لِلنَّاسِ وَمَحِلُّ النَّاسِ يَوْمُ النَّحْرِ عَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ وَلِهَذَا سُمَيَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَاتٍ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي فَسْخِ الْحَجِّ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَصَحُّهَا لِلتَّوْقِيفِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةٌ؟ قَالَ: «بَلْ لَنَا خَاصَّةً» وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا رُخْصَةً فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: «ذَلِكَ لِأَبَدِ الْأَبَدِ» فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
فأما حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتْعَةِ: إِنْ أُتِيتُ بِمَنْ فَعَلَهَا عَاقَبْتُهُ، وَكَذَا الْمُتْعَةُ الْأُخْرَى فَإِحْدَاهُمَا الْمُتْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ بِالنِّسَاءِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا، وَالْأُخْرَى فَسْخُ الْحَجِّ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ أَنَّهَا الْمُتْعَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَبَاحَهَا بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُمْرَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَاجِبَةٌ بِفَرْضِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَاجِبَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ فَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَمَّا السُّنَّةُ:
فَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ قَالَ: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» وَاحْتَجَّ قَوْمٌ فِي وجُوبِهَا بِظَاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ} [آل عمران: 97] وَالْحَجُّ الْقَصْدُ وَهُوَ يَقَعُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3] وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ إِلَّا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: اشْتِقَاقُ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِقَاقِ الْحَجِّ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اعْتَمَرْتُ فُلَانًا أَيْ زُرْتُهُ فَمَعْنَى الْعُمْرَةِ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى الْعُمْرَةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ بِهَا فَلَا مَعْنَى لِزِيَارَتِهِمْ إِيَّاهَا، وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ وَمِمَّنْ قَالَ: الْعُمْرَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبَى حَنِيفَةَ وَقَالَ مَنِ احْتَجَّ لَهُمْ:
رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ: «لَا وَأَنُ تَعْتَمِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ يُدَلِّسُ عَمَّنْ لَقِيَهُ وَعَمَّنْ لَمْ يَلْقَهُ فَلَا تَقُومُ بِحَدِيثِهِ حُجَّةٌ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا أَوْ سَمِعْتُ وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْفَرَائِضُ لَا تَقَعُ بِاخْتِلَافٍ وَإِنَّمَا تَقَعُ بِاتِّفَاقٍ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الِاشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِذَا لَبَّى بِالْحَجِّ إِنَّ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسَنِي فَمِمَّنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ ثُمَّ تَرَكَهُ بِمِصْرَ وَمِمَّنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ وَحُجَّةُ الَّذِينَ قَالُوا بِهِ:
مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى ضُبَاعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ فَقَالَ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي».
قَالَ إِسْحَاقُ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: الزُّهْرِيُّ، وَهِشَامٌ قَالَا: عَنْ عَائِشَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ كِلَاهُمَا، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: لَمْ يَصِلْهُ إِلَّا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا ذَلِكَ؟
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، وَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، وَعِكْرِمَةَ، يُخْبِرَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ جَاءَتْ ضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ وَأَنَا أُرِيدُ الْحَجَّ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ؟ قَالَ: «أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: أَهِلِّي مَعْنَاهُ لَبِّي، وَأَصْلُهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَمِنْهُ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ فَقَالَ بِهَذَا مَنْ ذَكَرْنَاهُ وَاتَّبَعُوا مَا جَاءَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَرِهَهُ قَوْمٌ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَرِهَ الِاشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، وَقَالَ «أَمَا حَسْبُكُمْ سَنَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ»، وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ كَرِهَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ لَهَا: «وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» وَلَمْ يَقُلْ لَهَا: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ حَجٌّ إِنْ أُحْصِرْتِ وَفِي الْآيَةِ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فَكَانَ هَذَا نَاسِخًا لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجُوزُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَازَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَجَازَ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ فِيهَا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ قَرَنَ وَجَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَكُلُّ هَذَا مَرْوِيٌّ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ حَتَّى طَعَنَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَبَعْضُ الْمُلْحِدِينَ فِي هَذَا وَقَالُوا: هَذِهِ الْحَجَّةُ الَّتِي حَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعُ مَا كَانَ أَصْحَابُهُ فَقَدِ اخْتَلَفْتُمْ فِيهَا وَهِيَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ مِنْكُمْ مَا رَوَيْتُمُوهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَهَذَا الطَّعْنُ مِنْ أَحَدِ اثْنَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّاعِنُ بِهِ جَاهِلًا بِاللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا الْقَوْمُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِرًا عَنِ الْحَقِّ، وَسَنَذْكُرُ أَصَحَّ مَا رُوِيَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا وَنُبَيِّنُ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَضَادٍّ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا مِنْ أَيْسَرِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا. وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِفْرَادُ وَالتَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدِ اخْتَارَ بَعْضَ هَذَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرَاثِيِّ، عَنْ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْمُقْرِئِ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، فِي الْإِفْرَادِ بِالْحَجِّ: إِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ لَا التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى الْمُفْرِدِ هَدْيٌ.
قَالَ الْبَرَاثِيُّ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ» وَهَذَا إِسْنَادٌ مُسْتَقِيمٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَالْحُجَّةُ لِمَنِ اخْتَارَ الْإِفْرَادَ أَنَّ الْمُفْرِدَ أَكْثَرُ تَعَبًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ لِإِقَامَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِثَوَابِهِ وَالْحُجَّةُ فِي اتِّفَاقِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِالتَّمَتُّعِ وَالْقُرْآنِ جَازَ أَنْ يُقَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَنَ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} [الزخرف: 51] وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَجَمْنَا وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِالرَّجْمِ.
وَحَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» وَإِنَّمَا أَمَرَ مَنْ قَطَعَ فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ جَازَ هَذَا وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَمْرِهِ بِذَلِكَ:
أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ، فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَذَا احْتِجَاجٌ لِمَنْ رَأَى إِفْرَادَ الْحَجِّ، وَسَنَذْكُرُ غَيْرَهُ.
فأما التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَهَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكِيرٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ،، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا مُتَنَاقِضٌ رَوَيْتُمْ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَرَوْيَتُمْ هَاهُنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ التَّمَتُّعَ، قِيلَ لَهُ: الْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ وَذَلِكَ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ فِيَ هَذَا الْحَدِيثِ نَصًّا، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَفَلَا تَرَى الْحَجَّ مُفْرَدًا مِنَ الْعُمْرَةِ فَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: «بِمَ أَهْلَلْتَ؟» فَقُلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟» قُلْتُ: لَا قَالَ: «فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَحُلَّ» فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي وَغَسَلَتْ رَأْسِي فَلَمْ أَزَلْ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَإِمَارَةِ عُمَرَ فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّسُكِ، فَقُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ فَأْتَمُّوا بِهِ فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَحْدَثْتَ فِي النُّسُكِ؟ قَالَ: أَنْ نَأْخُذَ بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَأَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: قَوْلُهُ: فَلْيَتَّئِدْ مَعْنَاهُ فَلْيَتَثَبَّثْ، مُشْتَقٌّ مِنَ التُّؤَدَةِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يَحِلَّ أَيْ: لَمْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، أَيْ: لَمْ يَسْتَحِلَّ لُبْسَ الثِّيَابِ وَالطِّيبَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُ أَبِي مُوسَى بِالتَّمَتُّعِ.
وفيه أَنَّ أَبَا مُوسَى تَوَقَّفَ عَنِ الْفُتْيَا بِالتَّمَتُّعِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ وَافَىَ عُمَرَ فَلَمَّا وَافَى عُمَرَ مَنَعَ مِنَ التَّمَتُّعِ فَلَمْ يَرُادَّهُ أَبُو مُوسَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَازَ غَيْرَهُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اخْتَارَ قَوْلًا يَجُوزُ وَيَجُوزُ غَيْرُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يُخَالَفَ عَلَيْهِ وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» فَرَأَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُزِيلَ مِنْهَا سِتَّةً وَأَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يُخَالِفْهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ كُنْتُ مَوْضِعَهُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي مُوسَى: «طُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَحُلَّ» وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: احْلَقْ وَلَا قَصِّرْ فَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ وَالتَّقْصِيرَ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ.
وفيه أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا جَائِزٌ لِمَنْ فَعَلَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُلَبِّيَ الرَّجُلُ وَلَا يُرِيدُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ يُوجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ وَاسْتَدَلَ قَائِلَ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّى مَرَّةً بِالْإِفْرَادِ وَمَرَّةً بِالتَّمَتُّعِ وَمَرَّةً بِالْقِرَانِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَرَنَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا وَإِذَا كَانَ قَارِنًا فَقَدْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ، وَاتَّفَقَتِ الْأَحَادِيثُ وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَقَالَ مَنْ رَآهُ تَمَتَّعَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَقَالَ مَنْ رَآهُ أَفْرَدَ ثُمَّ قَالَ: «لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ» فَقَالَ مَنْ سَمِعَهُ: قَرَنَ فَاتَّفَقَتِ الْأَحَادِيثُ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَفْرَدْتُ وَلَا تَمَتَّعْتُ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «قَرَنْتُ»
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَمَنِ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلِيٌّ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاذَا صَنَعْتُ؟» قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِكَ قَالَ: «فَإِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقْرَنْتُ» ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي كَمَا اسْتَدْبَرْتُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتُمْ وَلَكِنْ سُقْتُ الْهَدْيَ وَقْرَنْتُ».
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجَّةً مَعًا» فَهَذِهِ أَحَادِيثُ بَيِّنَةٌ وَيَزِيدُكَ فِي ذَلِكَ بَيَانًا:
أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَهْلٍ حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ النَّاسِ قَدْ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تُحِلَّ؟ قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَسُقْتُ هَدْيِي فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرَدًا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ نَحْرِ الْهَدْيِ فَهَذَا مَا فِي الْحَجِّ مِنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ وَاحْتِجَاجٍ، وَنَذْكُرُ بَعْدَهُ مَا فِي الْخَمْرِ مِنَ النَّسْخِ وَنَذْكُرُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَاسِخَهٌ لِمَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَنَذْكُرُ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ مِنَ الشَّرَابِ وَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَدُلُّ مِنَ الْمَعْقُولِ وَمِنَ الِاشْتِقَاقِ وَاللُّغَةِ عَلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَأَنَّهُ خَمْرٌ وَنَذْكُرُ الشُّبْهَةَ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ.